أولا: مصائب مسكوت عنها:
محاكمات الصحافة المستقلة والصحفيين، ومحاكمات الملفات المرتبطة بالإسلامين أو السلفيين، ومحاكمات معتقلي التفجيرات، ومحاكمات العاملين بالقصور والإقامات الملكية، ومحاكمات نشطاء حقوق الإنسان، ومحاكمات خريجي الجامعات المعطلين، ومحاكمات الفاعلين الجمعويين والنقابيين ومناضلي أحزاب اليسار، ومحاكمات ضحايا فضح الرشوة والسرقات والارتزاق، سواء منهم الضحايا العسكريون أو المدنيون، كلها محاكمات امتحن فيها القضاء في العهد الجديد، أبانت أغلبها ، هذه وغيرها، أن القرار القضائي يصنعه السياسي، وأن مداولات السياسي هي التي تتحكم في مداولات القضائي، وأن مصير المحاكمة يقرره السياسي ويتخذه بمنطق مصلحة الدولة ولو باللاقانون، ويشرعنه القضائي بحكم يصدره باسم الملك....فهذه المحاكمات نموذج شاهد على حالة قضائنا، قضاء يشكو إلى حد اليوم من خصاص كبير على مستوى ممارسة سيادته، كما يشكو من أمراض أخرى معقدة مثل ثقافة الخلط بين التقليد والحداثة، ويحتاج إلى علاج حقيقي بأحدث الأدوية، وإلى عمليات جراحية من مستوى عال وبمهارة كبيرة....وأما محاكمات ملفات الحق العام بالعشرات والمئات يوميا بمحاكم الجنايات أو الجنح، والتي تعقد بحضور المحامي أو بدون محام، لا أهمية لذلك ولا ترجى منه فائدة، وتمر كالبرق بنصف سؤال من القاضي وربع جواب من المتهم، لا يهم كذلك مادامت الوثائق بالملف والتفاصيل والمرافعات هي مضيعة لوقت المحكمة الثمين، إذ الأهم أولا في عصر ٌ السبرينك القضائى ٌ أن تتنافس المحاكم، مَنْ منها سيحطم المسافة بين تسجيل ملف وإغلاقه، ومن سيحقق من بينها أعلى رقم بسلم ٌ تصفية ٌٌ القضايا، ومن سيفوز من بينها بالصف الأول بالمملكة في قتل القضايا بسرعة، والأهم ثانيا أن تحصي المحاكم أعداد الملفات المحكومة أسبوعيا وشهريا وسنويا لتجد الوزارة أرقاما لإحصائياتها وجداولها وبياناتها اللوغارتمية، ولكي تتارفع أمام الممولين والمانحين من أوربا أو من أمريكا أو من البنك الدولي... كسبا للدعم باللأورو أو بالدولار... فهذا النوع من المحاكمات كذلك يكشف أمامنا يوميا كيف يتعامل القضاء مع المتقاضين وكيف يوفر لهم ٌٌ أحسن الخدمات ٌٌ القضائية، كيف ٌيعتنيٌ بالكيف عوض الكم، وكيف يرفع من درجة ٌ الجودة ٌ يوما بعد يوم، فتزداد ثقتهم فيه إلى درجة الغرام، وتختفي أمام هذه العناية كل التدخلات والتلفونات، وتذوب عمليات الارتشاء...و...و...و...وهاهم قضاة المملكة، رجالا ونساء، أولئك الذين تولوا القضاء ليقضوا بالقانون والإنصاف ويحققوا العدل الذي هو أساس الملك، قضاة الجنائي أو المدني، هاهم كاللاجئين يقرر مصيرهم غيرهم، حيث تضع السلطة التنفيذية، شئنا أم أبينا، يدها بقوة على رقابهم ومعنوياتهم وأدائهم، فهي صاحبة الكلمة في التعيين والترقية والتأديب والتفتيش، وهاهي مؤسسة المجلس الأعلى أكبر عقبة وأخطر قيد على استقلالهم، وسلطة وزير العدل عليهم سلاح ضارب لمفهوم ومحتوى ضمانات الاستقلال، وهاهي الظروف الشاقة لأدائهم يوميا، وقلة وسائل اشتغالهم بالخصوص بالمحاكم الدنيا كمحاكم الأسرة والابتدائيات بما فيها بعض المحاكم التجارية... تقتل اجتهادهم وتبعث الملل في نفوسهم، وهاهي أحكامهم ضد الدولة نفسها وضد الإدارة في عهد المفهوم الجديد للسلطة، تقضي الأشهر والسنوات مجمدة دون تنفيذ بإصرار وعناد واحتقار، لأن الدولة والإدارة لا تعبأ بالقانون ولا بالأحكام أو القرارات القضائية، ولا تنفذها حتى ولو كانت من المجلس الأعلى، فهي فوقه وهو تحتها، ورغم هذه الوقاحة تجاه القضاء تصر الدولة على أن تسمي نفسها دولة القانون، وهي تعلم جدا، جدا، أن لا أحد تنطلي عليه هذه الأكذوبة الدعائية الإعلامية... كما تعلم جيدا أن هذا الوضع المرغوب فيه من قبلها هو سياسة مخططة من قبلها، هو من أسباب الانحراف القضائي والشذوذ الأخلاقي في السلوك لدى فئات من القضاة ومن المحامين ومن مساعدي القضاء،...إذن، هذا وجه مصغر ومختزل من صور المعاناة التي لا يجهلها القضاة والمحامون والإدارة والمقاولات وعموم المتقاضين، وهذا ما لم تنتبه إليه لا نوايا الإصلاح ولا مشاريعه، إما جهلا أو تجاهلا.وهذه في النهاية رغبة الدولة التي تريد أن يكون عليها القضاء، وهذه إرادتها تجاه مؤسساته وبنياتها القانونية. وبعبارة جامعة ومعبرة، هناك حرب مقنعة من الدولة وحكومتها ضد القضاء بأجهزته، وهناك إصرار على أن يبقى القضاء آلة ضعيفة منفذة وليس آلة قوية مقررة...
ثانيا: الأمن القضائي: و قبل الإفلاس النهائي:
نعم، يجب أن نقولها علنا: إن المغرب مهدد في قضائه إذا استمر الوضع على هذا الحال، والمغاربة بالتالي مهددون في أمنهم الحقيقي وهو العدل، ومن يستعمل لغة الحديد أو الخشب لينفي هذه الحقيقة ويقلب الواقع، فإنما تنقصه يقظة الضمير وجرأة البيان واللسان.من هنا يمكن القول إن الملك محمدا السادس في خطاب العرش الأخير قد وضع الأصبع على الداء، ونطق بالكلمة التي تفضح عمق الأزمة أمام الجميع، حكومة ومجتمعا، وهو يتناول واقع القضاء ويطرح تصورات حول الإصلاح المنتظر استقبالا.... قالها أمام الجميع لما اعتبر أن الأولوية في المرحلة هي القضاء الذي يستوجب إصلاحا شموليا لدعم استقلاله الذي يمر عبر إعادة الثقة فيه وضمان الأمن القضائي...وضع الملك فاصلا واضحا ما بين الشعارات الحكومية في المجال القضائي والتي تتحدث بكثرة عن الأوراش، والإصلاح الحقيقي الذي يفتقر إليه المغاربة عموما والمتقاضون على الخصوص.لم يتوقف الملك في الخطاب المذكور عند ما سبق أن أكده سنة 2004 بمناسبة افتتاح أشغال المجلس الأعلى للقضاء وما أعطاه آنذاك من تفسير لمدلول الاستقلال عن بقية السلط، وعن تدخل سلطة المال الحرام في العملية القضائية، ومدلول النزاهة والأخلاق في الوظيفة القضائية، وإشاراته إلى ضرورة المساءلة والمتابعة القانونية لكل من يخرج عن مقومات وظيفته ويخل بواجباته من القضاة... بل لقد رام عنصرا جوهريا جديدا وهو الأمن القضائي، وبذلك لا تبقى للأمن الأمني التقليدي أية أسبقية، ولا يمكن أن تأتي الحلول لمشاكل المغرب الاقتصادية والاجتماعية والتنموية إلا عبر تأسيس نظام قضائي مبني على قواعد وتصورات حديثة.- فما هو الأمن القضائي وكيف نبنيه؟؟- ماهي طبيعته ومضامينه؟؟ - وما هي آليات تحقيقة وتفعيله؟؟في اعتقادي، يتحقق الأمن القضائي عبر عدة مقومات هي عصب وروح القضاء المستقل وفلسفة دولة القانون، وبدونها تبقى دلالات الاستقلال فارغة من كل محتوى.- أولا: لا يتحقق الأمن القضائي من دون فصل حقيقي للسلطات الثلاث، يقوم على تأصيل دستوري لمفهوم استقلال القضاء، بحيث يمنع اعتداء الواحدة منها على صلاحيات الأخرى أو تدخلها في اختصاصاتها، ويصبح القضاء مسؤولا عن نفسه لا ولاء له إلا للقانون، وهذا ما سيحقق سمو القضاء وتفوقه على الجميع، ويحقق المساواة أمامه، ويضع حدا لاستعمال القضاء لخدمة أغراض الدولة بل يجعل القضاء قوة تواجه شطط وتحكم السلطة كيفما كان مستواها تطبيقا للقاعدة القائلة La justice doit opposer à l état la raison de l état- ثانيا: لا يتحقق الأمن القضائي من دون تحقيق أمن القضاة والقاضيات، عبر شرط أساسي ومرجعية قانونية واضحة وهي إنقاذ المجلس الأعلى للقضاء من الرتابة والتقليد والتبعية، وإعادة تأسيسه على قواعد ثلاث جوهرية ومصيرية وهي: * شرط محو نفوذ السلطة التنفيذية داخل هذه المؤسسة ومحو تأثيرها السلبي على مقومات الاستقلال، وهو ما يتطلب انتفاضة فكرية وثقافية راقية، ومؤداها أن تصبح الرئاسة الدستورية على المجلس للملك وأن يعهد بالرئاسة التنفيذية عن طريق انتخاب رئيس تنفيذي للمجلس من بين القضاة. * وشرط فصل إدارة العدالة عن إدارة القضاء، أي توسيع اختصاصات، المجلس الأعلى ليتولى - زيادة على التعيين والترقية والتأديب بالنسبة للقضاة، وكلها في اعتقادي مهام إجرائية تجعل من أعضائه موظفين عاديين.. - يتولى القيام، كجهاز للتفكير، بتحديد الاستراتيجية القضائية في التكوين وإعادة التكوين، ووضع التوجهات العامة للاحتياجات التي تمكن القضاة من أداء مهامهم على ضوء القانون وعلى قاعدة المساءلة أمامه، خدمة للمتقاضين وكسبا لثقتهم واطمئنانهم للأحكام والقرارات،* وشرط ثالث، ويتمثل في أن يعاد النظر في مكوناته، أي أن تلتحق بالعضوية فيه مؤهلات فكرية وقانونية خارج الجسم القضائي، ممن يشهد لهم بالكفاءة والجدية والاستقلال من القانونيين.- ثالثا: لا يتحقق الأمن القضائي من دون أن يستهدف أمن المتقاضين، أفرادا ومؤسسات وشركات، من خلال محو الامتيازات المخولة للعديد من الموظفين، والتي تحميهم وتحصنهم، من جهة، وتمنع، من جهة أخرى، لجوء المتقاضي إلى العدالة ضدهم، ومن خلال شعور كل متقاض بالمساواة أمامه في الإجراءات وفي الأحكام، لا تمييز بينهم للاستفادة من خدماته، سواء كان التمييز في تطبيق القاعدة القانونية أو في الانتماء الاجتماعي والطبقي، يلجؤون إليه بكل يسر ودون موانع أو شروط مسبقة وبأقل تكلفة مالية، مستعينين بقواعد تواصل إعلامي قضائي يخبرهم بحقوقهم ويضع القانون في متناولهم، ومن خلال الإحساس بالاطمئنان في عملية التقاضي المدني والتجاري والإداري والجنائي وأمام مختلف المحاكم، لا يجبرون من أجل ذلك لا على طلب وساطة أو حماية أو صاحب نفوذ أو تقديم هدية أو أداء رشوة أو شراء حكم... الأمن القضائي للمتقاضي الذي يعيد الوضوح إلى دور وصلاحية كل مؤسسة من مؤسسات القضاء كالنيابة العامة وقضاء حقيق وقضاء الحكم، ويحدد مسؤوليتها عن كل إخلال بضمانات الحياد والنزاهة. - رابعا: الأمن القضائي قضية أمة وموضوع شراكة مسؤولة دون مزايدة، بمعنى أن موضوع القضاء ليس اختصاص ملك ولا اختصاص قضاة ولا اختصاص حكومة ولا اختصاص فئة دون أخرى، إنه قضية أمة بأسرها لا بد أن يكون موضوع نقاش عمومي وازن ومسؤول.لا بد أن يكون موضوع مستقبل القضاء والعدالة موضوع ندوة وطنية وحوار يشارك فيه كل الفاعلين من مهنيي القضاء ومساعدي القضاء وسلطات عمومية ومؤسسات سياسية من برلمان وأحزاب ومنظمات ومستهلكي الخدمات القضائية، حوار يبدع فيه المشاركون أساليب المشروعية القضائية الحديثة، ويطورون المفاهيم وأساليب العمل لمواجهة التحديات.... ولا بد كذلك، أن يجسد موضوع الأمن القضائي ومستقبل العدالة صلب برامج الأحزاب القابل للتطبيق في المدى القصير والمتوسط وفي المرحلة التاريخية التي يوجد بها المغرب، تضعه نصا مفصلا عن رؤيتها لمضمون الإصلاحات ولمنهجية تحقيق الأمن القضائي دستوريا وسياسيا وهيكليا وماديا، أخذا في الاعتبار أن الأمن القضائي جزء من الأمن الإنساني والأمن الحقوقي، له مقومات كونية ومرجعيات مقررة في المواثيق الدولية، لا ينغلق في الخصوصية والوراثية ولا يسقط ولا يذوب في الأمني الضيق...
محاكمات الصحافة المستقلة والصحفيين، ومحاكمات الملفات المرتبطة بالإسلامين أو السلفيين، ومحاكمات معتقلي التفجيرات، ومحاكمات العاملين بالقصور والإقامات الملكية، ومحاكمات نشطاء حقوق الإنسان، ومحاكمات خريجي الجامعات المعطلين، ومحاكمات الفاعلين الجمعويين والنقابيين ومناضلي أحزاب اليسار، ومحاكمات ضحايا فضح الرشوة والسرقات والارتزاق، سواء منهم الضحايا العسكريون أو المدنيون، كلها محاكمات امتحن فيها القضاء في العهد الجديد، أبانت أغلبها ، هذه وغيرها، أن القرار القضائي يصنعه السياسي، وأن مداولات السياسي هي التي تتحكم في مداولات القضائي، وأن مصير المحاكمة يقرره السياسي ويتخذه بمنطق مصلحة الدولة ولو باللاقانون، ويشرعنه القضائي بحكم يصدره باسم الملك....فهذه المحاكمات نموذج شاهد على حالة قضائنا، قضاء يشكو إلى حد اليوم من خصاص كبير على مستوى ممارسة سيادته، كما يشكو من أمراض أخرى معقدة مثل ثقافة الخلط بين التقليد والحداثة، ويحتاج إلى علاج حقيقي بأحدث الأدوية، وإلى عمليات جراحية من مستوى عال وبمهارة كبيرة....وأما محاكمات ملفات الحق العام بالعشرات والمئات يوميا بمحاكم الجنايات أو الجنح، والتي تعقد بحضور المحامي أو بدون محام، لا أهمية لذلك ولا ترجى منه فائدة، وتمر كالبرق بنصف سؤال من القاضي وربع جواب من المتهم، لا يهم كذلك مادامت الوثائق بالملف والتفاصيل والمرافعات هي مضيعة لوقت المحكمة الثمين، إذ الأهم أولا في عصر ٌ السبرينك القضائى ٌ أن تتنافس المحاكم، مَنْ منها سيحطم المسافة بين تسجيل ملف وإغلاقه، ومن سيحقق من بينها أعلى رقم بسلم ٌ تصفية ٌٌ القضايا، ومن سيفوز من بينها بالصف الأول بالمملكة في قتل القضايا بسرعة، والأهم ثانيا أن تحصي المحاكم أعداد الملفات المحكومة أسبوعيا وشهريا وسنويا لتجد الوزارة أرقاما لإحصائياتها وجداولها وبياناتها اللوغارتمية، ولكي تتارفع أمام الممولين والمانحين من أوربا أو من أمريكا أو من البنك الدولي... كسبا للدعم باللأورو أو بالدولار... فهذا النوع من المحاكمات كذلك يكشف أمامنا يوميا كيف يتعامل القضاء مع المتقاضين وكيف يوفر لهم ٌٌ أحسن الخدمات ٌٌ القضائية، كيف ٌيعتنيٌ بالكيف عوض الكم، وكيف يرفع من درجة ٌ الجودة ٌ يوما بعد يوم، فتزداد ثقتهم فيه إلى درجة الغرام، وتختفي أمام هذه العناية كل التدخلات والتلفونات، وتذوب عمليات الارتشاء...و...و...و...وهاهم قضاة المملكة، رجالا ونساء، أولئك الذين تولوا القضاء ليقضوا بالقانون والإنصاف ويحققوا العدل الذي هو أساس الملك، قضاة الجنائي أو المدني، هاهم كاللاجئين يقرر مصيرهم غيرهم، حيث تضع السلطة التنفيذية، شئنا أم أبينا، يدها بقوة على رقابهم ومعنوياتهم وأدائهم، فهي صاحبة الكلمة في التعيين والترقية والتأديب والتفتيش، وهاهي مؤسسة المجلس الأعلى أكبر عقبة وأخطر قيد على استقلالهم، وسلطة وزير العدل عليهم سلاح ضارب لمفهوم ومحتوى ضمانات الاستقلال، وهاهي الظروف الشاقة لأدائهم يوميا، وقلة وسائل اشتغالهم بالخصوص بالمحاكم الدنيا كمحاكم الأسرة والابتدائيات بما فيها بعض المحاكم التجارية... تقتل اجتهادهم وتبعث الملل في نفوسهم، وهاهي أحكامهم ضد الدولة نفسها وضد الإدارة في عهد المفهوم الجديد للسلطة، تقضي الأشهر والسنوات مجمدة دون تنفيذ بإصرار وعناد واحتقار، لأن الدولة والإدارة لا تعبأ بالقانون ولا بالأحكام أو القرارات القضائية، ولا تنفذها حتى ولو كانت من المجلس الأعلى، فهي فوقه وهو تحتها، ورغم هذه الوقاحة تجاه القضاء تصر الدولة على أن تسمي نفسها دولة القانون، وهي تعلم جدا، جدا، أن لا أحد تنطلي عليه هذه الأكذوبة الدعائية الإعلامية... كما تعلم جيدا أن هذا الوضع المرغوب فيه من قبلها هو سياسة مخططة من قبلها، هو من أسباب الانحراف القضائي والشذوذ الأخلاقي في السلوك لدى فئات من القضاة ومن المحامين ومن مساعدي القضاء،...إذن، هذا وجه مصغر ومختزل من صور المعاناة التي لا يجهلها القضاة والمحامون والإدارة والمقاولات وعموم المتقاضين، وهذا ما لم تنتبه إليه لا نوايا الإصلاح ولا مشاريعه، إما جهلا أو تجاهلا.وهذه في النهاية رغبة الدولة التي تريد أن يكون عليها القضاء، وهذه إرادتها تجاه مؤسساته وبنياتها القانونية. وبعبارة جامعة ومعبرة، هناك حرب مقنعة من الدولة وحكومتها ضد القضاء بأجهزته، وهناك إصرار على أن يبقى القضاء آلة ضعيفة منفذة وليس آلة قوية مقررة...
ثانيا: الأمن القضائي: و قبل الإفلاس النهائي:
نعم، يجب أن نقولها علنا: إن المغرب مهدد في قضائه إذا استمر الوضع على هذا الحال، والمغاربة بالتالي مهددون في أمنهم الحقيقي وهو العدل، ومن يستعمل لغة الحديد أو الخشب لينفي هذه الحقيقة ويقلب الواقع، فإنما تنقصه يقظة الضمير وجرأة البيان واللسان.من هنا يمكن القول إن الملك محمدا السادس في خطاب العرش الأخير قد وضع الأصبع على الداء، ونطق بالكلمة التي تفضح عمق الأزمة أمام الجميع، حكومة ومجتمعا، وهو يتناول واقع القضاء ويطرح تصورات حول الإصلاح المنتظر استقبالا.... قالها أمام الجميع لما اعتبر أن الأولوية في المرحلة هي القضاء الذي يستوجب إصلاحا شموليا لدعم استقلاله الذي يمر عبر إعادة الثقة فيه وضمان الأمن القضائي...وضع الملك فاصلا واضحا ما بين الشعارات الحكومية في المجال القضائي والتي تتحدث بكثرة عن الأوراش، والإصلاح الحقيقي الذي يفتقر إليه المغاربة عموما والمتقاضون على الخصوص.لم يتوقف الملك في الخطاب المذكور عند ما سبق أن أكده سنة 2004 بمناسبة افتتاح أشغال المجلس الأعلى للقضاء وما أعطاه آنذاك من تفسير لمدلول الاستقلال عن بقية السلط، وعن تدخل سلطة المال الحرام في العملية القضائية، ومدلول النزاهة والأخلاق في الوظيفة القضائية، وإشاراته إلى ضرورة المساءلة والمتابعة القانونية لكل من يخرج عن مقومات وظيفته ويخل بواجباته من القضاة... بل لقد رام عنصرا جوهريا جديدا وهو الأمن القضائي، وبذلك لا تبقى للأمن الأمني التقليدي أية أسبقية، ولا يمكن أن تأتي الحلول لمشاكل المغرب الاقتصادية والاجتماعية والتنموية إلا عبر تأسيس نظام قضائي مبني على قواعد وتصورات حديثة.- فما هو الأمن القضائي وكيف نبنيه؟؟- ماهي طبيعته ومضامينه؟؟ - وما هي آليات تحقيقة وتفعيله؟؟في اعتقادي، يتحقق الأمن القضائي عبر عدة مقومات هي عصب وروح القضاء المستقل وفلسفة دولة القانون، وبدونها تبقى دلالات الاستقلال فارغة من كل محتوى.- أولا: لا يتحقق الأمن القضائي من دون فصل حقيقي للسلطات الثلاث، يقوم على تأصيل دستوري لمفهوم استقلال القضاء، بحيث يمنع اعتداء الواحدة منها على صلاحيات الأخرى أو تدخلها في اختصاصاتها، ويصبح القضاء مسؤولا عن نفسه لا ولاء له إلا للقانون، وهذا ما سيحقق سمو القضاء وتفوقه على الجميع، ويحقق المساواة أمامه، ويضع حدا لاستعمال القضاء لخدمة أغراض الدولة بل يجعل القضاء قوة تواجه شطط وتحكم السلطة كيفما كان مستواها تطبيقا للقاعدة القائلة La justice doit opposer à l état la raison de l état- ثانيا: لا يتحقق الأمن القضائي من دون تحقيق أمن القضاة والقاضيات، عبر شرط أساسي ومرجعية قانونية واضحة وهي إنقاذ المجلس الأعلى للقضاء من الرتابة والتقليد والتبعية، وإعادة تأسيسه على قواعد ثلاث جوهرية ومصيرية وهي: * شرط محو نفوذ السلطة التنفيذية داخل هذه المؤسسة ومحو تأثيرها السلبي على مقومات الاستقلال، وهو ما يتطلب انتفاضة فكرية وثقافية راقية، ومؤداها أن تصبح الرئاسة الدستورية على المجلس للملك وأن يعهد بالرئاسة التنفيذية عن طريق انتخاب رئيس تنفيذي للمجلس من بين القضاة. * وشرط فصل إدارة العدالة عن إدارة القضاء، أي توسيع اختصاصات، المجلس الأعلى ليتولى - زيادة على التعيين والترقية والتأديب بالنسبة للقضاة، وكلها في اعتقادي مهام إجرائية تجعل من أعضائه موظفين عاديين.. - يتولى القيام، كجهاز للتفكير، بتحديد الاستراتيجية القضائية في التكوين وإعادة التكوين، ووضع التوجهات العامة للاحتياجات التي تمكن القضاة من أداء مهامهم على ضوء القانون وعلى قاعدة المساءلة أمامه، خدمة للمتقاضين وكسبا لثقتهم واطمئنانهم للأحكام والقرارات،* وشرط ثالث، ويتمثل في أن يعاد النظر في مكوناته، أي أن تلتحق بالعضوية فيه مؤهلات فكرية وقانونية خارج الجسم القضائي، ممن يشهد لهم بالكفاءة والجدية والاستقلال من القانونيين.- ثالثا: لا يتحقق الأمن القضائي من دون أن يستهدف أمن المتقاضين، أفرادا ومؤسسات وشركات، من خلال محو الامتيازات المخولة للعديد من الموظفين، والتي تحميهم وتحصنهم، من جهة، وتمنع، من جهة أخرى، لجوء المتقاضي إلى العدالة ضدهم، ومن خلال شعور كل متقاض بالمساواة أمامه في الإجراءات وفي الأحكام، لا تمييز بينهم للاستفادة من خدماته، سواء كان التمييز في تطبيق القاعدة القانونية أو في الانتماء الاجتماعي والطبقي، يلجؤون إليه بكل يسر ودون موانع أو شروط مسبقة وبأقل تكلفة مالية، مستعينين بقواعد تواصل إعلامي قضائي يخبرهم بحقوقهم ويضع القانون في متناولهم، ومن خلال الإحساس بالاطمئنان في عملية التقاضي المدني والتجاري والإداري والجنائي وأمام مختلف المحاكم، لا يجبرون من أجل ذلك لا على طلب وساطة أو حماية أو صاحب نفوذ أو تقديم هدية أو أداء رشوة أو شراء حكم... الأمن القضائي للمتقاضي الذي يعيد الوضوح إلى دور وصلاحية كل مؤسسة من مؤسسات القضاء كالنيابة العامة وقضاء حقيق وقضاء الحكم، ويحدد مسؤوليتها عن كل إخلال بضمانات الحياد والنزاهة. - رابعا: الأمن القضائي قضية أمة وموضوع شراكة مسؤولة دون مزايدة، بمعنى أن موضوع القضاء ليس اختصاص ملك ولا اختصاص قضاة ولا اختصاص حكومة ولا اختصاص فئة دون أخرى، إنه قضية أمة بأسرها لا بد أن يكون موضوع نقاش عمومي وازن ومسؤول.لا بد أن يكون موضوع مستقبل القضاء والعدالة موضوع ندوة وطنية وحوار يشارك فيه كل الفاعلين من مهنيي القضاء ومساعدي القضاء وسلطات عمومية ومؤسسات سياسية من برلمان وأحزاب ومنظمات ومستهلكي الخدمات القضائية، حوار يبدع فيه المشاركون أساليب المشروعية القضائية الحديثة، ويطورون المفاهيم وأساليب العمل لمواجهة التحديات.... ولا بد كذلك، أن يجسد موضوع الأمن القضائي ومستقبل العدالة صلب برامج الأحزاب القابل للتطبيق في المدى القصير والمتوسط وفي المرحلة التاريخية التي يوجد بها المغرب، تضعه نصا مفصلا عن رؤيتها لمضمون الإصلاحات ولمنهجية تحقيق الأمن القضائي دستوريا وسياسيا وهيكليا وماديا، أخذا في الاعتبار أن الأمن القضائي جزء من الأمن الإنساني والأمن الحقوقي، له مقومات كونية ومرجعيات مقررة في المواثيق الدولية، لا ينغلق في الخصوصية والوراثية ولا يسقط ولا يذوب في الأمني الضيق...
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire